الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

النموذج الثانى

                      إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم أحدٌ عنده

 لما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ما يصيب اصحابه من اذى وقهر سمح لهم بالهجرة وقال لهم "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملك لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" .
هاجر فى اول الامر احد عشر رجلا وامرأتان وكان على رأسهم سيدنا عثمان بن عفان وزوجته السيدة رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم ,استقر الامر للمسلمين فى الحبشة وبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا ,قالت السيدة ام سلمة وكانت ممن هاجروا الى الحبشة "لما نزلنا أرض الحبشة ، جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمِنًا على ديننا ، وعبدنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه " .
لما علمت قريش بهذا الحال  قرروا ارسال عمرو بن العاص وعبدالله بن ربيعة ومعهم  الهدايا لكى يعطوها للنجاشى وحاشيته ليسلمهم المسلمون الذين هاجروا الى الحبشة , ذهب عمرو بن العاص الى النجاشى وقال له  "أيها الملك ، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء ،فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنت،وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم و عشائرهم لتردهم إليهم " فقالت حاشيته : صدقا أيها الملك قومهم أعلم بهم ،وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم , فغضب النجاشي  ثم قال لا والله لا أسلمهم إليهما حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ،وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
جاء المسلمون الى النجاشى فسألهم عن هذا الدين الذى فارقوا فيه قومهم ولم يدخلوا فى دينه فقال له سيدنا جعفر بن ابى طالب رضى الله عنه "أيها الملك ، كنا قوما أهل

جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ؛ فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ؛ وأمرنا أن نعبدالله وحده ، لانشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام , واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ؛ ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك " . فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ فقال له جعفر: نعم ؛ فقال له النجاشي : فاقرأه علي  فقرأ عليه صدرا من سورة مريم , فبكى النجاشي حتى اخضلَّت لحيته ، ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ، انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما .
فى اليوم التالى ذهب عمرو بن العاص الى النجاشى وقال له ان المسلمين يقولون قولا عظيما فى عيسى , فارسل النجاشى ليأتوا له بالمسلمون ليسألهم عن قولهم فى عيسى
فلما جاءوا اليه قال لهم  ماذا تقولون في عيسى بن مريم ؟  فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، يقول :هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذارء البتول. قالت : فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا ، ثم قال والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود ثم قال لهم اذهبوا فأنتم آمنون فى الارض ومن سبكم غرم ثم رد الى عمرو بن العاص هداياه وقال والله لا أسلمهم إليكما .
عاش المسلمون فى جوار النجاشى فى امان , وكان هناك ابن عم للنجاشى ينازعه فى الحكم وقامت الحرب بينهما فطلب المسلمون من النجاشى ان يشتركوا معه فى الحرب ولكنه رفض خوفا عليهم واثناء المعركة وقف المسلمون يشاهدون المعركة من بعيد وقالت السيدة ام سلمة رضى الله عنها  "قالت فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه ، والتمكين له في بلاده " وارسلوا الزبير بن العوام ليستكشف لهم الامر فرجع وقال لهم"
ألا أبشروا ، فقد ظفر النجاشي ، وأهلك الله عدوه ، ومكن له في بلاده "قالت السيدة ام سلمة  " فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها , ورجع النجاشي ، وقد أهلك الله عدوه ، ومكن له في بلاده ، واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ".

إن هجرة المسلمون الى بلاد الحبشة تمثل لنا نموذجا واقعيا لكيفية تعايش المسلم فى مجتمع ذات اغلبية مختلفة عنه فى الدين ولكنها تحمى المسلمون وتحمى حرية ممارستهم لشعائرهم الاسلامية.
لنبدأ بخير الخلق عليه افضل الصلاة والسلام فعندما اذن للمسلمين بالهجرة نصحهم بالحبشة وقال "إن بها ملك لا يظلم عنده أحد " لم يقل لهم سيدنا ان بها ملك يصلى مائة ركعة او يصوم ألف يوم  بل قال لهم انه ملك عادل ,لا يهمنا صلاة من يحكم ولا صيامه فكل هذا بينه  وبين الله ولكن ما يهمنا عدل من يحكمنا واحترامه لشعبه , فكان النجاشى مثلا لهذا الحاكم العادل فعندما جاءه عمرو بن العاص بالهدايا لم ينخدع النجاشى انما طلب بإحضار المسلمون لسؤالهم فى هذا الامر واستمع الى دفاعهم حتى اقتنع وقال لعمرو بن العاص " والله لا أسلمهم إليكما " وعندما جاء له عمرو فى اليوم التالى لكى يخدعه باسم الدين تنبه النجاشى لذلك واستمع الى قول المسلمون واقتنع بكلامهم ورفض تسليمهم ,وعاش المسلمون فى امانه الى ان عادوا الى مكة.
اما صحابة رسول الله ما ان ذهبوا الى الحبشة حتى استئذنوا من النجاشى ان يعيشوا على ارض الحبشة فسمح لهم وهذا فى عصرنا يسمى بإحترام القوانين ,عاش المسلمون فى سلام فلم نقرأ ان احدا منهم دعا اهل الحبشة الى ترك دينهم واعتناق الاسلام انما بحسن اخلاقهم و تمسكهم بدينهم جعلوا النجاشى ملك الحبشة يعتنق الاسلام فى اخر عمره  وعندما سألهم النجاشى فى شأن دينهم قالوا ماعلمهم رسول الله وصفوا عظمة الاسلام وحسن ما جاء به وعندما سألهم عن قول الاسلام فى عيسى لم يخشوا احدا وقالوا القول الحق مع ان هذا الحديث كان من الممكن ان يعرضهم للكثير من المشاكل ولكن المسلم  يثبت على الحق مهما كلفه , نرى المسلمون عندما قام ابن عم النجاشى ونازع النجاشى فى ملكه وقفوا بجانبه وطلبوا منه مناصرته فى الحرب وهذا ما نسميه المواطنه فقد اعتبروا انفسهم مواطنون فى هذا البلد يدافعون عنه ويحاربون من أجله رغم اختلاف الدين والعقيدة بل وصل الامر انهم دعوا الله ان ينصر النجاشى على اعدائه وعندما انتصر فرح المسلمون نعم فرحوا للرجل المسيحى فرحوا للملك العادل الذى وقف بجانبهم .
وعلى كل مسلم يعيش فى مثل هذه الظروف ان يتعلم من صحابة رسول الله كيف عاشوا, كيف احترموا القوانين ,كيف تعاملوا مع من اختلفوا معهم فى الدين ,ادعو الى الاسلام ولكن بحسن اخلاقك وبحسن معاملتك لمن تختلف معه ,تمسك بدينك ولا تجعل عادات المجتمع الذى تعيش فيه تضر بإسلامك او أخلاقك ولكن اثبت على الحق وكن عونا لكل الناس مهما كانت عقيدته.
واخيرا إن العدل هو اساس هذه السيرة الطيبة ,بالعدل تتزن الامور ونعيش جميعا فى سلام ,قال الله تعالى :"{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى} , {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} , {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}" .
وليعلم كل حاكما فى موقعه ان صلاته وصيامه لن تنفعه ولن تنفعنا اذا كان حاكما ظالما فاعدلوا يرحمكم الله .
                                      اقول قولى هذا واستغفر الله
المراجع: سيرة ابن هشام

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق