الثلاثاء، 5 مايو 2015

بحيرات الوهم

 

بحيرات الوهم

لم أعُد أتذكر من الماضي الإ بعض الومضات السريعة التي تسطع كالبرق في الليلة الشتوية الظلماء , تلك الذكريات تحولت مع مرور الزمن كبحيرة ماء راكدة تملؤها الطحالب التي اصبحت عائقاً لوصول أي شعاع للضوء .
كل حين وآخر يأتي شخص ليلقي حجراً في هذه البحيرة فتتشكل دوائر و تتسع ويتخلل مركز تلك الدائرة نوراً باهراً يسطع فيضئ البحيرة لتري ما بداخلها من حياة.

حياة قاسية قي الظلام تعيش كالأموات لاصوت ولا نفس وعندما يسري النور بداخلها وتظن ان الحياة قد دبت في تلك الذكريات وتغمض عينك لتتذكر فلا تري الإ الآلام .
هل تاهت لحظات السعادة وسط العتمة فلم نعد نتذكرها الإ بإبتسامة في ظاهرها الفرح و في باطنها حزن وبكاء علي ضياع تلك اللحظات .
هذه رحلتي التي لم أعُد أذكرها رغم حداثة السن وتواضع التجربة الإنسانية ولكن سأكتب ما يمليه علي ذلك الحجر الذي غاص في بحيرة الذكريات و رأى ما نُسي.
أمسكت الحجر في يدي وقلت له الا تحدثني عن ما رأيت بالداخل فأجابني بالموافقة بشرط أن ألتزم الصمت مادام يحكي فأجبته بأن لك ما أردت .
نظر لي وقال لقد ألقي بي في كثير من البحيرات فرأيت ما لا عينا رأت فمن البحيرات ما كانت عميقة ولكنها خاوية علي عروشها ومنها ما كانت تهيج فجأة كموج البحر فتطرد ما بداخلها ولن أطيل عليك يا أخي ففي يوم من الأيام القمرية كنت أحلس لأشاهد البدر في تمامه وأتذكر عندما كان جزء مني وأنا جزء منه في العصور الغابرة .
سمعت صوت أقدام تتحرك نحوي دققت النظر فإذا هم ثلاث رجال تظهر عليهم سمات الأدب والوقار ركلني أحدهم وكان شاباً رائعا حقا أظنه إنسانا مجتهدا يحب الحياة وتحبه , ركلني بقدمه فصرت أتدحرج حتي وصلت الي حافة بحيرتك فأمسك بي صاحبهم الثاني وكان صاحب ابتسامة جميلة تخفي الآم يريد أن لا يظهرها ولكن قلبه ملئ بالطيبة والحب , نظر لصاحبهم الثالث وقال له لو كان هذا الحجر ينطق لسألته أهو أشد قسوة أم قلبك , وكان صاحبهم الثالث شخصا طويل القامة ذو نظرات حادة لا يظهر حبه لأحد ولكنه أكثرهم حبا لهم , فضحك وقال بل أنا أشد قسوة ولكنه في الحقيقة أكثرهم رحمة .قال لهم صاحبهم الذي ركلني في البداية دعوكم من هذا الجدل و أخذني منهم وألقي به في بحيرتك . يا لها من ظلمة و وحشة وكأن الضوء لم يتخلل تلك البحيرة منذ زمن بعيد .
كانت البحيرة تهيج كالحصان الثائر الذي يكبل بالقيود كانت البحيرة ترفض وجودي داخلها فهي تعيش في سلام مزمع منذ زمن وتخاف أن ينكشف أمرها. بدأت الدوامات تأخذني وتطوف بي من سطح البحيرة الي قاعها لأري العجائب. وجوه كثيرة طمست معالمها ووجوه تضحك بسخرية ووجوه تنظر بعين الشفقة , أحوال متقلبة ففي الصباح عبد مطيع وفي الليل فاسق زنديق , يقول الناس صالح و تعلم إنك طالح و يقولون مدعي وتعلم إنك صادق , تبيع الايام بالقليل لتشتري لحظة يكون القلب فيها غير حزين . تتعلق بالاشياء الفانية و تترك من هو باقي سبحانه . تحب فتصل للعشق و تعشق فتشتاق وتنظر حولك فلا تجد الإ الفراق .
يا بني أخرج من بحيرتك هذه فإنها بركة راكد ماؤها ولن تستطيع له طلبا يا بني لا تبحث عن لحظات السعادة في دوامات الماضي واصنع السعادة في العمر الباقي.
لا تتعلق بالاشياء فتحزن لفراقها و تعلق بالباقي فتسعد . يا بني أعلم ما من أحد سيحبك كما تشاء انما دعه يحبك بطريقته فإن كان صادقا سيصل لقلبك دون تلميحات . مهما تعددت الوجوه وتعالت الضحكات فلا تنشغل بهم عندما استقريت في قاع نفسك وجدتها أمارة لوامة فلا عيب ان تلوم نفسك ولكن العيب ان تتركها تجلدك فتعكر حياتك و تجعلها ضنكا .
يا بني منذ زمن وأنا أُلقي من بحيرة الي أخري و أري العجائب ولكني وجدتهم متفقين علي أن الحجر أشد قسوة من قلوبهم.
سكت الحجر و ردد قول الحق سبحانه " ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " , ثم نظر الي السماء وقال يارب هذا عبدك المسكين فأغفر له وجلس يسبح الله بكلمات لم أفهها ثم ودعني وقال لي ألقيني في صحراء جرداء فلا أدخل قلوباً أشد قسوة مني .